الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون} قال الحسن: هي الزكاة المفروضة. وقال ابن جريج وسعيد بن جبير: هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوع. قال ابن عطية. وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوى ذلك في آخر الآية قوله{والكافرون هم الظالمون{ أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال. قلت: وعلى هذا التأويل يكون إنفاق الأموال مرة واجبا ومرة ندبا بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه. وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم وحذرهم من الإمساك إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال وأبو مرحب كنية الظل، ويقال: هو كنية عرقوب الذي قيل فيه: مواعيد عرقوب. والخلة بالضم أيضا: ما خلا من النبت، يقال: الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها. والخلة بالفتح: الحاجة والفقر. والخلة: ابن مخاض، عن الأصمعي. يقال: أتاهم بقرص كأنه فرسن خلة. والأنثى خلة أيضا. ويقال للميت: اللهم أصلح خلته، أي الثلمة التي ترك. والخلة: الخمرة الحامضة. والخلة (بالكسر): واحدة خلل السيوف، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب وغيره، وهي أيضا سيور تلبس ظهر سِيَتي القوس. والخلة أيضا: ما يبقى بين الأسنان. وسيأتي في {النساء{ اشتقاق الخليل ومعناه. فأخبر الله تعالى ألا خلة في الآخرة ولا شفاعة إلا بإذن الله. وحقيقتها رحمة منه تعالى شرف بها الذي أذن له في أن يشفع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {لا بيع فيه ولا خلة، ولا شفاعة{ بالنصب من غير تنوين، وكذلك في سورة {إبراهيم{ وألف الاستفهام غير مغيرة عمل {لا{ كقولك: ألا رجل عندك، ويجوز ألا رجل ولا امرأة كما جاز في غير الاستفهام فاعلمه. وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين، كما قال الراعي: ويروى {وما هجرتك{ فالفتح على النفي العام المستغرق لجميع الوجوه من ذلك الصنف، كأنه جواب لمن قال: هل فيه من بيع ؟ فسأل سؤالا عاما فأجيب جوابا عاما بالنفي. و{لا{ مع الاسم المنفى بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء، والخبر {فيه{. وإن شئت جعلته صفة ليوم، ومن رفع جمله {لا{ بمنزلة ليس. وجعل الجواب غير عام، وكأنه جواب من قال: هل فيه بيع ؟ بإسقاط من، فأتى الجواب غير مغير عن رفعه، والمرفوع مبتدأ أو اسم ليس و{فيه{ الخبر. قال مكي: والاختيار الرفع؛ لأن أكثر القراء عليه، ويجوز في غير القرآن لا بيع فيه ولا خلة، وأنشد سيبويه لرجل من مذحج: ويجوز أن تبني الأول وتنصب الثاني وتنونه فتقول: لا رجل فيه ولا امرأة، وأنشد سيبويه: ف {لا{ زائدة في الموضعين، الأول عطف على الموضع والثاني على اللفظ ووجه خامس أن ترفع الأول وتبني الثاني كقولك: لا رجل فيها ولا امرأة، قال أمية: وهذه الخمسة الأوجه جائزة في قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد تقدم هذا والحمد لله. {والكافرون{ ابتداء. {هم{ ابتداء ثان، {الظالمون{ خبر الثاني، وإن شئت كانت {هم{ زائدة للفصل و{الظالمون{ خبر {الكافرون{. قال عطاء بن دينار: والحمد لله الذي قال{والكافرون هم الظالمون{ ولم يقل والظالمون هم الكافرون. {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم} قوله تعالى{الله لا إله إلا هو الحي القيوم{ هذه آية الكرسي سيدة آي القرآن وأعظم آية، كما تقدم بيانه في الفاتحة، ونزلت ليلا ودعا النبي صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها. روي عن محمد بن الحنفية أنه قال: لما نزلت آية الكرسي خر كل صنم في الدنيا، وكذلك خر كل ملك في الدنيا وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وهربت الشياطين يضرب بعضهم على بعض إلى أن أتوا إبليس فأخبروه بذلك فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك، فجاؤوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت. قلت: هذا صحيح، وفي الخبر: من قرأ الكرسي دبر كل صلاة كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال والإكرام، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله حتى يستشهد. قوله{الحي القيوم{ نعت لله عز وجل، وإن شئت كان بدلا من {هو{، وإن شئت كان خبرا بعد خبر، وإن شئت على إضمار مبتدأ. ويجوز في غير القرآن النصب على المدح. و{الحي{ اسم من أسمائه الحسنى يسمى به، ويقال: إنه اسم الله تعالى الأعظم. ويقال: إن عيسى ابن مريم عليه السلام كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء: يا حي يا قيوم. ويقال: إن آصف بن برخيا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان دعا بقوله يا حي يا قيوم. ويقال: إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم: أيا هيا شرا هيا، يعني يا حي يا قيوم. ويقال: هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به. قال الطبري عن قوم: إنه يقال حي قيوم كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه. وقيل: سمى نفسه حيا لصرفه الأمور مصاريفها وتقديره الأشياء مقاديرها. وقال قتادة: الحي الذي لا يموت. وقال السدي: المراد بالحي الباقي. قال لبيد: وقد قيل: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم. {القيوم{ من قام؛ أي القائم بتدبير ما خلق؛ عن قتادة. وقال الحسن: معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها، من حيث هو عالم بها لا يخفى عليه شيء منها. وقال ابن عباس: معناه الذي لا يحول ولا يزول؛ قال أمية بن أبي الصلت: قدره مهيمن قيوم والحشر والجنة والنعيم
إلا لأمر شأنه عظيم قال البيهقي: ورأيت في {عيون التفسير{ لإسماعيل الضرير تفسير القيوم قال: ويقال هو الذي لا ينام؛ وكأنه أخذه من قوله عز وجل عقيبه في آية الكرسي{لا تأخذه سنة ولا نوم{. وقال الكلبي: القيوم الذي لا بدئ له؛ ذكره أبو بكر الأنباري. وأصل قيوم قيووم اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء؛ ولا يكون قيوم فعولا؛ لأنه من الواو فكان يكون قيووما. وقرأ ابن مسعود وعلقمة والأعمش والنخعي {الحي القيام{ بالألف، وروي ذلك عن عمر. ولا خلاف بين أهل اللغة في أن القيوم أعرف عند العرب وأصح بناء وأثبت علة. والقيام منقول عن القوام إلى القيام، صرف عن الفعال إلى الفيعال، كما قيل للصواغ الصياغ؛ قال الشاعر: ثم نفى عز وجل أن تأخذه سنة ولا نوم. والسنة: النعاس في قول الجميع. والنعاس ما كان من العين فإذا صار في القلب صار نوما؛ قال عدي بن الرقاع يصف امرأة بفتور النظر: وفرق المفضل بينهما فقال: السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب. وقال ابن زيد: الوسنان الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل، حتى ربما جرد السيف على أهله. قال ابن عطية: وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر، وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب. وقال السدي: السنة: ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان. قلت: وبالجملة فهو فتور يعتري الإنسان ولا يفقد معه عقله. والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا يدركه خلل ولا يلحقه ملل بحال من الأحوال. والأصل في سِنَة وسْنَة حذفت الواو كما حذفت من يسن. والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن في حق البشر. والواو للعطف و{لا{ توكيد. قلت: والناس يذكرون في هذا الباب قوله تعالى{له ما في السماوات وما في الأرض{ أي بالملك فهو مالك الجميع وربه وجاءت العبارة بـ {ما{ وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود. قال الطبري: نزلت هذه الآية لما قال الكفار: ما نعبد أوثانا إلا ليقربونا إلى الله زلفى. قوله تعالى{من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه{ {من{ رفع بالابتداء و{ذا{ خبره؛ و{الذي{ نعت لـ {ذا{، وإن شئت بدل، ولا يجوز أن تكون {ذا{ زائدة كما زيدت مع {ما{ لأن {ما{ مبهمة فزيدت {ذا{ معها لشبهها بها. وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة، وهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة وغيرهم ممن أكرمهم وشرفهم الله، ثم لا يشفعون إلا لمن ارتضى؛ كما قال قلت: قد قلت: فدلت هذه الأحاديث على أن شفاعة المؤمنين وغيرهم إنما هي لمن دخل النار وحصل فيها، أجارنا الله منها وقول ابن عطية{ممن لم يصل أو وصل{ يحتمل أن يكون أخذه من أحاديث أخر، والله أعلم. وقد وأما شفاعات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فاختلف فيها؛ فقيل ثلاث، وقيل اثنتان، وقيل: خمس، يأتي بيانها في {سبحان{ إن شاء الله تعالى. وقد أتينا عليها في كتاب {التذكرة{ والحمد لله. قوله تعالى{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم{ الضميران عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله{له ما في السماوات وما في الأرض {. وقال مجاهد{ما بين أيديهم{ الدنيا {وما خلفهم{ الآخرة. قال ابن عطية: وكل هذا صحيح في نفسه لا بأس به؛ لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده؛ وبنحو قول مجاهد قال السدي وغيره. قوله تعالى{ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء{ العلم هنا بمعنى المعلوم، أي ولا يحيطون بشيء من معلوماته؛ وهذا كقول الخضر لموسى عليه السلام حين نقر العصفور في البحر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر. فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات؛ لأن علم الله سبحانه وتعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض. ومعنى الآية لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه. قوله تعالى{وسع كرسيه السماوات والأرض{ قال الشاعر: أي علماء بحوادث الأمور. وقيل: كرسيه قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض، كما تقول: اجعل لهذا الحائط كرسيا، أي ما يعمده. وهذا قريب من قول ابن عباس في قوله {وسع كرسيه{. قال البيهقي: وروينا عن ابن مسعود وسعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله {وسع كرسيه{ قال: علمه. وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور مع العرش. وروى إسرائيل عن السدي عن أبي مالك في قوله {وسع كرسيه السماوات والأرض{ قال: إن الصخرة التي عليها الأرض السابعة ومنتهى الخلق على أرجائها، عليها أربعة من الملائكة لكل واحد منهم أربعة وجوه: وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر؛ فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرضين والسماوات، ورؤوسهم تحت الكرسي والكرسي تحت العرش والله واضع كرسيه فوق العرش. قال البيهقي: في هذا إشارة إلى كرسيين: أحدهما تحت العرش، والآخر موضوع على العرش. وفي رواية أسباط عن السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله {وسع كرسيه السماوات والأرض{ فإن السماوات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش. وأرباب الإلحاد يحملونها على عظم الملك وجلالة السلطان، وينكرون وجود العرش والكرسي وليس بشيء. وأهل الحق يجيزونهما؛ إذ في قدرة الله متسع فيجب الإيمان بذلك. قال أبو موسى الأشعري: الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل. قال البيهقي: قد روينا أيضا في هذا عن ابن عباس وذكرنا أن معناه فيما يرى أنه موضوع من العرش موضع القدمين من السرير، وليس فيه إثبات المكان لله تعالى. و {يؤوده{ معناه يثقله؛ يقال: آدني الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه المشقة، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم. قال الزجاج: فجائز أن تكون الهاء لله عز وجل، وجائز أن تكون للكرسي؛ وإذا كانت للكرسي؛ فهو من أمر الله تعالى. و{العلي{ يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان؛ لأن الله منزه عن التحيز. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه ألا يحكى. ومنه قوله تعالى وحكي عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب ألا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم؛ إذ لا معظم له حينئذ. {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} قوله تعالى{لا إكراه في الدين{ الدين في هذه الآية المعتقد والملة بقرينة قوله{قد تبين الرشد من الغي{. والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغيرها ليس هذا موضعه، وإنما يجيء في تفسير قوله وقيل : معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مجبرا مكرها؛ وهو والنجاسات وغيرهما، ويستقذرهم المالك لهم ويتعذر عليه الانتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار. ونحو هذا"روى ابن القاسم عن مالك. وأما أشهب فإنه قال: هم على دين من سباهم، فإذا امتنعوا أجبروا على الإسلام، والصغار لا دين لهم فلذلك فأجبروا على الدخول في دين الإسلام لئلا يذهبوا إلى دين باطل. فأما سائر أنواع الكفر متى بذلوا الجزية لم نكرههم على الإسلام سواء كانوا عربا أم عجما قريشا أو غيرهم. وسيأتي بيان هذا وما للعلماء في الجزية ومن تقبل منه في {براءة{ إن شاء الله تعالى. قوله تعالى{فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله{ جزم بالشرط. والطاغوت مؤنثة من طغى يطغى. - وحكى الطبري يطغو - إذا جاوز الحد بزيادة عليه. ووزنه فعلوت، ومذهب سيبويه أنه اسم مذكر مفرد كأنه اسم جنس يقع للقليل والكثير. ومذهب أبي علي أنه مصدر كرهبوت وجبروت، وهو يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه موضع اللام كجَبَذ وجَذَب، فقلبت الواو ألفاً لتحركها وتحرك ما قبلها فقيل طاغوت؛ واختار هذا القول النحاس. وقيل: أصل طاغوت في اللغة مأخوذة من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآل من اللؤلؤ. وقال المبرد: هو جمع. وقال ابن عطية: وذلك مردود. قال الجوهري: والطاغوت الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقد يكون واحداً قال الله تعالى وإنما جعله مفصوما لتثنيه وانحنائه إذا نام. ولم يقل {مقصوم{ بالقاف فيكون بائنا باثنين. وافْصم المطر: أقلع. وأفصمت عنه الحمى. ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات {سميع{ من أجل النطق {عليم{ من أجل المعتقد. {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله تعالى{الله ولي الذين آمنوا{ الولي فعيل بمعنى فاعل. قال الخطابي: الولي الناصر ينصر عباده المؤمنين؛ قال الله عز وجل {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور{، وقال {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} قوله تعالى{ألم تر{ هذه ألف التوقيف، وفي الكلام معنى التعجب، أي اعجبوا له. وقال الفراء{ألم تر{ بمعنى هل رأيت، أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم، وهل رأيت الذي مر على قرية، وهو النمروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم. وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى بأن فتح الله تعالى عليه باباً من البعوض فستروا عين الشمس وأكلوا عسكره ولم يتركوا إلا العظام، ودخلت واحدة منها في دماغه فأكلته حتى صارت مثل الفأرة؛ فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك، فبقي في البلاء أربعين يوما. قال ابن جريح: هو أول ملك في الأرض. قال ابن عطية: وهذا مردود. وقال قتادة: هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل. وقيل: إنه ملك الدنيا بأجمعها؛ وهو أحد الكافرين؛ والآخر بختنصر. وقيل: إن الذي حاج إبراهيم نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام؛ حكى جميعه ابن عطية. وحكى السهيلي أنه النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح وكان ملكاً على السواد وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق واسمه بيوراسب بن أندراست وكان ملك الأقاليم كلها، وهو الذي قتله أفريدون بن أثفيان؛ وفيه يقول حبيب: وكان الضحاك طاغيا جبارا ودام ملكه ألف عام فيما ذكروا. وهو أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل، وللنمروذ ابن لصلبه يسمى (1) قلت: وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي صالح قال: انطلق إبراهيم النبي عليه السلام يمتار فلم يقدر على الطعام، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا: ما هذا ؟ فقال: حنطة حمراء؛ ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء، قال: وكان إذا زرع منها شيئا جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً. وقال الربيع وغيره في هذا القصص: إن النمروذ لما قال أنا أحيي وأميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر فقال: قد أحييت هذا وأمت هذا؛ فلما رد عليه بأمر الشمس بهت. وروي في الخبر: أن الله تعالى قال وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتي بالشمس من المغرب ليعلم أني أنا القادر على ذلك. ثم أمر نمروذ بإبراهيم فألقي في النار، وهكذا عادة الجبابرة فإنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة، فأنجاه الله من النار، على ما يأتي. وقال السدي: إنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك - ولم يكن قبل ذلك دخل عليه - فكلمه وقال له: من ربك ؟ فقال: ربي الذي يحيي ويميت. قال النمروذ: أنا أحيي وأميت، وأنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا ولا يسقون حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا وتركت اثنين فماتا. فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت. وذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة لكنه أمر له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم عليه السلام إلى الحقيقة، وفزع نمروذ إلى المجاز وموه على قومه؛ فسلم له إبراهيم تسليم الجدل وانتقل معه من المثال وجاءه بأمر لا مجاز فيه {فبهت الذي كفر{ أي انقطعت حجته ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق؛ لأن ذوي الألباب يكذبونه. هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الملك والعز والرفعة في الدنيا، وتدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة. وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله، قال الله تعالى قراءات - قرأ علي بن أبي طالب {ألم تر{ بجزم الراء، والجمهور بتحريكها، وحذفت الياء للجزم. {أن آتاه الله الملك{ في موضع نصب، أي لأن آتاه الله، أو من أجل أن آتاه الله. وقرأ جمهور القراء {أن أحيي{ بطرح الألف التي بعد النون من {أنا{ في الوصل، وأثبتها نافع وابن أبي أويس، إذا لقيتها همزة في كل القرآن إلا في قوله تعالى قال النحاس: على أن نافعاً قد أثبت الألف فقرأ {أنا أحيي وأميت{ ولا وجه له. قال مكي: والألف زائدة عند البصريين، والاسم المضمر عندهم الهمزة والنون وزيدت الألف للتقوية. وقيل: زيدت للوقف لتظهر حركة النون. والاسم عند الكوفيين {أنا{ بكماله؛ فنافع في إثبات الألف على قولهم على الأصل، وإنما حذف الألف من حذفها تخفيفاً؛ ولأن الفتحة تدل عليها. قال الجوهري: وأما قولهم {أنا{ فهو اسم مكنى وهو للمتكلم وحده، وإنما بني على الفتح فرقا بينه وبين {أن{ التي هي حرف ناصب للفعل، والألف الأخيرة إنما هي لبيان الحركة في الوقف، فإن توسطت الكلام سقطت إلا في لغة رديئة؛ كما قال: وبَهُت الرجل وبَهِت وبُهت إذا انقطع وسكت متحيراً؛ عن النحاس وغيره. وقال الطبري: وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى {بَهَت{ بفتح الباء والهاء. قال ابن جني قرأ أبو حيوة{فبهت الذي كفر{ بفتح الباء وضم الهاء، وهي لغة في {بهت{ بكسر الهاء. قال: وقرأ ابن السميقع {فبهت{ بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر؛ فالذي في موضع نصب. قال: وقد يجوز أن يكون بَهَت بفتحها لغة في بَهُت. قال: وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة {فبهت{ بكسر الهاء كغرق ودهش. قال: والأكثرون بالضم في الهاء. قال ابن عطية: وقد تأول قوم في قراءة من قرأ {فبهت{ بفتحها أنه بمعنى سب وقذف، وأن نمروذ هو الذي سب حين انقطع ولم تكن له حيلة. {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} قوله تعالى{أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها{ {أو{ للعطف حملا على المعنى والتقدير عند الكسائي والفراء: هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مر على قرية. وقال المبرد: المعنى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، ألم تر من هو كالذي مر على قرية. فأضمر في الكلام من هو. وقرأ أبو سفيان بن حسين {أو كالذي مر{ بفتح الواو، وهي واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام الذي معناه التقرير. وسميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها؛ من قولهم: قريت الماء أي جمعته، وقد تقدم. قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك: الذي مر على القرية هو عزير. وقال وهب بن منبه وعبدالله بن عبيد بن عمير وعبدالله بن بكر بن مضر: هو إرمياء وكان نبياً. وقال ابن إسحاق: إرمياء هو الخضر، وحكاه النقاش عن وهب بن منبه. قال ابن عطية: وهذا كما تراه، إلا أن يكون اسما وافق اسما؛ لأن الخضر معاصر لموسى، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما رواه وهب بن منبه. قلت: إن كان الخضر هو إرمياء فلا يبعد أن يكون هو؛ لأن الخضر لم يزل حيا من وقت موسى حتى الآن على الصحيح في ذلك، على ما يأتي بيانه في سورة {الكهف{. وإن كان مات قبل هذه القصة فقول ابن عطية صحيح، والله أعلم. وحكى النحاس ومكي عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى. قال النقاش: ويقال هو غلام لوط عليه السلام. وحكى السهيلي عن القتبي هو شعيا في أحد قوليه. والذي أحياها بعد خرابها كوشك الفارسي. والقرية المذكورة هي بيت المقدس في قول وهب بن منبه وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم. قال: وكان مقبلا من مصر وطعامه وشرابه المذكور تين أخضر وعنب وركوة من خمر. وقيل من عصير. وقيل: قلة ماء هي شرابه. والذي أخلى بيت المقدس حينئذ بختنصر وكان واليا على العراق للهراسب ثم ليستاسب بن لهراسب والد اسبندياد. وحكى النقاش أن قوما قالوا: هي المؤتفكة. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم أناسا كثيرة فجاء بهم وفيهم عزير بن شرخيا وكان من علماء بني إسرائيل فجاء بهم إلى بابل، فخرج ذات يوم في حاجة له إلى دير هزقل على شاطئ الدجلة. فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له، فربط الحمار تحت ظل الشجرة ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكنا وهي خاوية على عروشها فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها. وقيل: إنها القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت؛ قاله ابن زيد. وعن ابن زيد أيضا أن القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا، مر رجل عليهم وهم عظام نخرة تلوح فوقف ينظر فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام. قال: ابن عطية: وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها، والإشارة بـ {ـهذه{ إنما هي إلى القرية. وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان. وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك والربيع وعكرمة: القرية بيت المقدس لما خربها بختنصر البابلي. وفي الحديث الطويل حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف إرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس، لأن بختنصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل، ورأى إرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها. والعريش: سقف البيت. وكل ما يتهيأ ليظل أو يكن فهو عريش؛ ومنه عريش الدالية؛ ومنه قوله تعالى قوله تعالى{قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها{ معناه من أي طريق وبأي سبب، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان، كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن: أنى تعمر هذه بعد خرابها. فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته. وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله إنما كان على إحياء الموتى من بني آدم، أي أنى يحيي الله موتاها. وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال: كان هذا القول شكا في قدرة الله تعالى على الإحياء؛ فلذلك ضرب له المثل في نفسه. قال ابن عطية: وليس يدخل شك في قدرة الله تعالى على إحياء قرية بجلب العمارة إليها وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر، والصواب ألا يتأول في الآية شك. قوله تعالى{فأماته الله مائة عام{ {مائة{ نصب على الظرف. والعام: السنة؛ يقال: سِنون عُوَّم وهو تأكيد للأول؛ كما يقال: بينهم شغل شاغل. وقال العجاج: وهو في التقدير جمع عائم، إلا أنه لا يفرد بالذكر؛ لأنه ليس باسم وإنما هو توكيد، قال الجوهري. وقال النقاش: العام مصدر كالعَوْم؛ سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك. والعوم كالسَّبْح؛ وقال الله تعالى قوله تعالى{ثم بعثه{ معناه أحياه، وقد تقدم الكلام فيه. قوله تعالى{قال كم لبثت{ اختلف في القائل له {كم لبثت{؛ فقيل الله جل وعز؛ ولم يقل له إن كنت صادقا كما قال للملائكة على ما تقدم. وقيل: سمع هاتفا من السماء يقول له ذلك. وقيل: خاطبه جبريل. وقيل: نبي. وقيل: رجل مؤمن ممن شاهده من قومه عند موته وعمر إلى حين إحيائه فقال له: كم لبثت. قلت: والأظهر أن القائل هو الله تعالى؛ لقوله{وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما{ والله أعلم. وقرأ أهل الكوفة {كم لبثت{ بإدغام الثاء في التاء لقربها منها في المخرج. فإن مخرجهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان. قال النحاس: والإظهار أحسن لتباين مخرج الثاء من مخرج التاء. ويقال: كان هذا السؤال بواسطة الملك على جهة التقرير. و{كم{ في موضع نصب على الظرف. قوله تعالى{قال لبثت يوما أو بعض يوم{ إنما قال هذا على ما عنده وفي ظنه، وعلى هذا لا يكون كاذبا فيما أخبر به؛ ومثله قول أصحاب الكهف قوله تعالى{فانظر إلى طعامك{ وهو التين الذي جمعه من أشجار القرية التي مر عليها. {وشرابك لم يتسنه{ قرأ ابن مسعود {وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه{. وقرأ طلحة بن مصرف غيره {وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة{. وقرأ الجمهور بإثبات الهاء في الوصل إلا الأخوان فإنهما يحذفانها، ولا خلاف أن الوقف عليها بالهاء. وقرأ طلحة بن مصرف أيضا {لم يسن{ {وانظر{ أدغم التاء في السين؛ فعلى قراءة الجمهور الهاء أصلية، وحذفت الضمة للجزم، ويكون {يتسنه{ من السنة أي لم تغيره السنون. قال الجوهري: ويقال سنون، والسنة واحدة السنين، وفي نقصانها قولان: أحدهما الواو، والآخر الهاء. وأصلها سَنْهة مثل الجبهة؛ لأنه من سنهت النخلة وتسنهت إذا أتت عليها السنون. ونخلة سناء أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى؛ وسنهاء أيضا، قال بعض الأنصار: وأسنهت عند بني فلان أقمت عندهم، وتسنيت أيضا. واستأجرته مساناة ومسانهة أيضا. وفي التصغير سنية وسنيهة. قال النحاس: من قرأ {لم يتسن{ و{انظر{ قال في التصغير: سُنّية وحذفت الألف للجزم، ويقف على الهاء فيقول{لم يتسنه{ تكون الهاء لبيان الحركة. قال المهدوي: ويجوز أن يكون أصله من سانَيْتُه مساناة، أي عاملته سنة بعد سنة، أو من سانهت بالهاء؛ فإن كان من سانيت فأصله يتسنى فسقطت الألف للجزم؛ وأصله من الواو بدليل قولهم سنوات والهاء فيه للسكت، وإن كان من سانهت فالهاء لام الفعل؛ وأصل سنة على هذا سنهة. وعلى القول الأول سَنَوَة. وقيل: هو من أسِنَ الماء إذا تغير، وكان يجب أن يكون على هذا يتأسن. أبو عمرو الشيباني: هو من قوله قوله تعالى{وانظر إلى حمارك{ قال وهب بن منبه وغيره: وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءا جزءا. ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاما ملتئمة، ثم كساه لحما حتى كمل حمارا، ثم جاءه ملك فنفخ فيه الروح فقام الحمار ينهق؛ على هذا أكثر المفسرين. وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضا أنهما قالا: بل قيل له: وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة عام؛ وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه بعد أن أحيا الله منه عينيه ورأسه، وسائر جسده ميت، قالا: وأعمى الله العيون عن إرمياء وحماره طول هذه المدة. قوله تعالى{ولنجعلك آية للناس{ قال الفراء: إنما ادخل الواو في قوله {ولنجعلك{ دلالة على أنها شرط لفعل بعده، معناه {ولنجعلك آية للناس{ ودلالة على البعث بعد الموت جعلنا ذلك. وإن شئت جملت الواو مقحمة زائدة. وقال الأعمش: موضع كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات، فوجد الأبناء والحفدة شيوخا. عكرمة: وكان يوم مات ابن أربعين سنة. وروي عن علي رضوان الله عليه أن عزيرا خرج من أهله وخلف امرأته حاملا، وله خمسون سنة فأماته الله مائة عام، ثم بعثه فرجع إلى أهله وهو ابن خمسين سنة وله ولد من مائة سنة فكان ابنه أكبر منه بخمسين سنة. وروي عن ابن عباس قال: لما أحيا الله عزيرا ركب حماره فأتى محلته فأنكر الناس وأنكروه، فوجد في منزله عجوزا عمياء كانت أمة لهم، خرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة، فقال لها: أهذا منزل عزير؟ فقالت نعم! ثم بكت وقالت: فارقنا عزير منذ كذا وكذا سنة! قال: فأنا عزير؛ قالت: إن عزيرا فقدناه منذ مائة سنة. قال: فالله أماتني مائة سنة ثم بعثني. قالت: فعزير كان مستجاب الدعوة للمريض وصاحب البلاء فيفيق، فادع الله يرد علي بصري؛ فدعا الله ومسح على عينيها بيده فصحت مكانها كأنها أنشطت من عقال. قالت: أشهد أنك عزير! ثم انطلقت إلى ملأ بني إسرائيل وفيهم ابن لعزير شيخ ابن مائة وثمان وعشرين سنة، وبنو بنيه شيوخ، فقالت: يا قوم، هذا والله عزير فأقبل إليه ابنه مع الناس فقال ابنه: كانت لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه؛ فنظرها فإذا هو عزير. وقيل: جاء وقد هلك كل من يعرف، فكان آية لمن كان حيا من قومه إذ كانوا موقنين بحاله سماعا. قال ابن عطية: وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه بعدها أعظم آية، وأمره كله آية غابر الدهر، ولا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض. قوله تعالى{وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما{ قرأ الكوفيون وابن عامر بالزاي والباقون بالراء، وروى أبان عن عاصم {ننشرها{ بفتح النون وضم الشين والراء، وكذلك قرأ ابن عباس والحسن وأبو حيوة؛ فقيل: هما لغتان في الإحياء بمعنى؛ كما يقال رجع ورجعته، وغاض الماء وغضته، وخسرت الدابة وخسرتها؛ إلا أن المعروف في اللغة أنشر الله الموتى فنشروا، أي أحياهم الله فحيوا؛ قال الله تعالى{ثم إذا شاء أنشره{ ويكون نشرها مثل نشر الثوب. نشر الميت ينشر نشورا أي عاش بعد الموت؛ قال الأعشى: فكأن الموت طي للعظام والأعضاء، وكأن الإحياء وجمع الأعضاء بعضها إلى بعض نشر. وأما قراءة {ننشزها{ بالزاي فمعناه نرفعها. والنشز: المرتفع من الأرض؛ قال: قال مكي: المعنى: انظر إلى العظام كيف نرفع بعضها على بعض في التركيب للإحياء؛ لأن النشز الارتفاع؛ ومنه المرأة النشوز، وهي المرتفعة عن موافقة زوجها؛ ومنه قوله تعالى والكسوة: ما وارى من الثياب، وشبه اللحم بها. وقد استعاره لبيد للإسلام فقال: وقد تقدم أول السورة. قوله تعالى{فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير{ بقطع الألف. وقد روي أن الله جل ذكره أحيا بعضه ثم أراه كيف أحيا باقي جسده. قال قتادة: إنه جعل ينظر كيف يوصل بعض عظامه إلى بعض؛ لأن أول ما خلق الله منه ورأسه وقيل له: انظر، فقال عند ذلك{أعلم{ بقطع الألف، أي أعلم هذا. وقال الطبري: المعنى في قوله {فلما تبين له{ أي لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه قال: أعلم. قال ابن عطية: وهذا خطأ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف، وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري، بل هو قول بعثه الاعتبار؛ كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله تعالى: لا إله إلا الله ونحو هذا. وقال أبو علي: معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته. قلت: وقد ذكرنا هذا المعنى عن قتادة، وكذلك قال مكي رحمه الله، قال مكي: إنه أخبر عن نفسه عندما عاين من قدرة الله تعالى في إحيائه الموتى، فتيقن ذلك بالمشاهدة، فأقرأنه يعلم أن الله على كل شيء قدير، أي أعلم أنا هذا الضرب من العلم الذي لم أكن أعلمه على معاينة؛ وهذا على قراءة من قرأ {أعلم{ بقطع الألف وهم الأكثر من القراء. وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف، ويحتمل وجهين: أحدهما قال له الملك: اعلم، والآخر هو أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل؛ فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه: اعلمي يا نفس هذا العلم اليقين الذي لم تكوني تعلمين معاينة؛ وأنشد أبو علي في مثل هذا المعنى: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا قال ابن عطية: وتأنس أبو علي في هذا الشعر بقول الشاعر: قال مكي: ويبعد أن يكون ذلك أمرا من الله جل ذكره له بالعلم؛ لأنه قد أظهر إليه قدرته، وأراه أمرا أيقن صحته وأقر بالقدرة فلا معنى لأن يأمره الله بعلم ذلك، بل هو يأمر نفسه بذلك وهو جائز حسن. وفي حرف عبدالله ما يدل على أنه أمر من الله تعالى له بالعلم على معنى ألزم هذا العلم لما عاينت وتيقنت، وذلك أن في حرفه: قيل اعلم. وأيضا فإنه موافق لما قبله من الأمر في قوله {انظر إلى طعامك{ و{انظر إلى حمارك{ و{انظر إلى العظام {فكذلك {واعلم أن الله{ وقد كان ابن عباس يقرؤها {قيل اعلم{ ويقول أهو خير أم إبراهيم؟ إذ قيل له{واعلم أن الله عزيز حكيم{. فهذا يبين أنه من قول الله سبحانه له لما عاين من الإحياء.
|